فصل: المسألة الحادية عشرة: أسباب صحة الكلام وقوته:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الثالثة: أثر الأسلوب في كمال الكلام وجماله:

اعلم! أن كمال الكلام وجماله وحُلته البيانية باسلوبه. واسلوبه صورة الحقائق وقالب المعاني المتخذ من قطعات الاستعارة التمثيلية. وكأن تلك القطعات سيِمُوطُوغْرَاف خياليّ؛ كإراءة لفظ الثمرة جنتها وحديقتها. ولفظ بارز معركة الحرب. ثم أن التمثيلات مؤسسة على سرّ المناسبات بين الأشياء، والانعكاسات في نظام الكائنات، واخطار امور امورًا؛ كإخطار رؤية الهلال في الثريا في ذهن ابناء النخلة غصنَها الأبيض بالقدم المتقوس بتدلي العنقود. وفي التنزيل {حَتى عادَ كالعُرجُون القديم}.
ثم أن فائدة أسلوب التمثيل كما في الآيات المذكورة هي: أن المتكلم بواسطة الاستعارة التمثيلية يُظهر العروق العميقة، ويوصل المعاني المتفرقة. وإذا وضع بيد السامع طرفًا امكنَ له أن يجرّ الباقي إلى نفسه، وينتقل إليه بواسطة الاتصال، فبرؤية بعضٍ يتدرج شيئًا فشيئًا- ولو مع ظلمة- إلى تمامه. فمن سمِع من الجوهريِّ ما قال في وصف الكلام البليغ: الكلام البليغ ما ثقبته الفكرةُ.. ومن الخمّار ما قال فيه: ما طُبخ في مراجل العلم.. ومن الجمَّال ما قال فيه: ما اخذتَ بخطامه واَنَخْتَهُ في مَبْرك المعنى ينتقل إلى تمام المقصد بملاحظة الصنعة.
ثم أن الحكمة في تشكل الاسلوب هي: أن المتكلم بارادته ينادي ويوقظ المعانيَ الساكنة في زوايا القلب كأنها حفاة عراة. فيخرجون ويدخلون الخيال، فيلبسون ما يجدون من الصور الحاضرة بسبب الصنعة أو التوغل أو الألفة أو الأحتياج، ولا أقل من لفِّ منديلٍ من تلك الصنعة برأسه، أو الانصباغ بلون مّا. وما تجده في ديباجة الكتب من براعة الاستهلال من اظهر امثلة هذه المسألة.
ثم أن أسلوب الكلام قد يكون باعتبار خيال المخاطَب كما في أساليب القرآن الكريم فلا تنسَ. ثم أن مراتب الاسلوب متفاوتة فبعضها ارقّ من النسيم إذا سرى يرمز إليه بهيئات الكلام. وبعضها اخفى من دسائس الحرب لايشمه إلا ذو دهاء في الحرب؛ كاستشمام الزمخشري من {مَنْ يُحْيي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أسلوب مَن يبرز إلى الميدان.
وإن شئت فتأمل في الآيات المذكورة تر فيها مصداق هذه المسائل بألطف وجه. وإن شئت زُرِ الامامَ البوصيريَّ وانظر كيف كتب رَجَتَتَهُ باسلوب الحكيم في قوله:
وَاسْتَفْرغِ الدَّمْعَ مِنْ عَيْنٍ قَدِ امْتَلأَتْ ** مِنَ الْمَحَارِمِ وَالْزِمْ حِمْيَةَ النَّدَم

ورمز إلى الاسلوب بلفظ الحمية. أو استمع هدهد سليمان كيف أومأ إلى هندسته بقوله: {الاّ يَسْجُدُوا لله الَّذِي يُخْرِج الْخَبْءَ في السَّموَاتِ والأرض}.

.المسألة الرابعة: أخذ الكلام بحجز بعضه:

اعلم! أن الكلام إنما يكون ذا قوّة وقدرة إذا كان اجزاؤه مصداقا لما قيل:
عِبَاراتُنا شَتى وَحسْنُكَ وَاحِدٌ ** وَكُلٌّ إلى ذَاكَ الْجَمَالِ يُشير

بأن تتجاوب قيودات الكلام ونظمه وهيئته، ويأخذ كلٌ بيد الآخر ويظاهره، ويمد كلٌ بقَدَرِه الغرضَ الكليِّ مع ثمراته الخصوصية. كأن الغرض المشترك حوض يتشرب من جوانبه الرطبة، فيتولد من هذه المجاوبة المعاونةَ، ومنها الانتظام، ومنه التناسب، ومنه الحسن والجمال الذاتي. وهذا السر من البلاغة يتلألأ من مجموع القرآن لاسيما في {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} كما سمعتَه مع التنظير بقوله: {ولئن مسَّتهم نفحةٌ من عذاب ربك}.

.المسألة الخامسة: عوامل ثراء الكلام:

اعلم! أن غناء الكلام وثروته ووسعته هو أنه كما أن أصل الكلام يفيد أصل المقصد؛ كذلك كيفياته وهيئاته ومستتبعاته تشير وترمز وتلوح إلى لوازم الغرض وتوابعه وفروعه، فكأنما تتراءى طبقة بعد طبقة ومقاما خلف مقام. وإن شئت مثالا تأمل في {وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض} إلى آخره. و{وإذا لقوا الذين آمنوا} إلى آخره، على الوجه المفسَّر سابقا.

.المسألة السادسة: أنواع التلفظ ومراتبه:

اعلم! أن المعاني المجتناة من خريطة الكلام المأخوذة المنقوشة بفُوطُغْراف التلفظ على أنواع مختلفة ومراتب متفاوتة. فبعضها كالهواء يُحسّ به ولا يُرى.. وبعضها كالبخار يُرى ولا يُؤْخذ.. وبعضها كالماء يُؤخذ ولاينضبط.. وبعضها كالسبيكة ينضبط ولا يتعين.. وبعضها كالدّرّ المنتظم والذهب المضروب يتشخص، ثم بتأثير الغرض والمقام قد يتصلب الهوائي. وقد تعتور على المعنى الواحد الحالات الثلاث. ألا ترى أنه إذا أثر أمر خارجي في وجدانك يتهيج قلبُك؟ فيثير الحسيات فيتطاير معانٍ هوائية فيتولد ميولٌ، ثم يتحصل بعضها، ثم يتشكل من ذلك البعض قسم، ثم ينعقد من ذلك القسم بعض. ففي كل من هذه الطبقات يتوضع وينعقد البعض، ويبقى البعض الآخر معلّقا كمعلقية بعض الصوت عند تشكل الحروف، والتبن عند انعقاد الحبوب. فمن شأن البليغ أن يفيد بصريح الكلام ما تعلق به الغرضُ واقتضاه المقام، وطلبه المخاطب. ثم يحيل الطبقات الأُخر- بمقدار نسبة درجة القرب من الغرض- على دلالة القيود، وإشارة الفحوى، ورمز الكيفيات، وتلويح مستتبعات التراكيب، وتلميح الأساليب، وإيماء أطوار المتكلم. ثم أن من تلك المعاني المعلقة معاني حرفية هوائية ليس لها ألفاظ مخصوصة، ولا لها وطن معين بل كالسيَّاح السيَّار؛ قد يستتر في كلمة وقد يتشربه كلام وقد يتداخل في قصة، فإن عصرتَ تقطَّر. كالتحسر في {اِنِي وَضَعْتُها اُنْثى} والتأسف في لَيْتَ الشَّبَابَ. إلخ.
والاشتياق والتمدح والخطاب والاشارة والتألم والتحير والتعجب والتفاخر وغير ذلك. ثم أن شرط حسن المعاشرة بين تلك المعاني المتزاحمة تقسيم العناية والاهتمام على نسبة خدمتها للغرض الاساسيّ. وإن شئت مثالًا لهذه المسألة فمن رأس السورة إلى هنا مثال بيّن على الوجه المشروح سابقًا.

.المسألة السابعة: الحقيقة والخيال:

اعلم! أن الخيال المندمج في أسلوب لابد أن يتسنبل على نواة حقيقية، ويكون كالمرآة في أن ينعكس به- في المعنويات- القوانينُ والعلل المندرجة في سلسلة الخارجيات.
وفلسفة النحو التي هي المناسبات المذكورة في كتبه أيضًا من هذا القبيل؛ كما يقال: الرفع للفاعل لأن القوي يأخذ القوي. وقس عليه.

.المسألة الثامنة: تغير معاني الحروف باعتبار المقام والغرض:

اعلم! أن سيبويه نصّ على أن الحروف التي تعدد معانيها كمن وإلى والباء وغيرها، أصل المعنى فيها واحد لا يزول؛ لكن باعتبار المقام والغرض قد يتشرب معنى معلقًا، ويجذبه إلى جوفه، فيصير المعنى الأصلي صورة وأسلوبًا لمسافره. وكذلك أن العارف بفقه اللغة إذا تأمل عَرف أن اللفظ المشترك في الأغلب معناه واحد، ثم بالمناسبات وقع تشبيهات.. ثم منها مجازات.. ثم منها حقائق عرفية.. ثم يتعدد. حتى أن اسم العين التي معناه الواحد البصر أو المنهل، يطلق على الشمس أيضًا بالرمز إلى أن العالم العلويَّ ينظر إلى العالم السفليِّ بها، أو أن ماء الحياة الذي هو الضياء يسيل من ذلك المنبع في الجبل الأبيض المشرف وقس!
هو عمر بن عثمان، إمام نحاة البصرة، ولد بالبيضاء من مدن شيراز نشأ بالبصرة ودرس النحو على الخليل الفراهيدى، ورد بغداد فناظر امام نحاة الكوفة الكسائى فحكم بانتصاره عليه، فأسف وعاد إلى موطنه، وألف كتابه الذي يعدّ اصل النحو، توفي سنة 796هـ.
والعين: عين الشمس، وعين الشمس: شعاعها الذي لا تثبت عليه العين. وقيل: العين الشمس نفسها، يقال: طلعت العين، وغابت العين. لسان العرب لابن منظور.

.المسألة التاسعة: أسباب علو الكلام:

اعلم! أن أعلى مراتب البلاغة الذي يُعجِز الإرادةَ الجزئية والفكر الشخصيّ والتصور البسيط: هو أن يحافظ ويراعي وينظر المتكلم دفعةً نسب قيود الكلام وروابط الكلمات وموازنة الجمل التي يُظهِر كلٌ مع الآخر نقشًا متسلسلًا إلى النقش الأعظم. حتى كأن المتكلم استخدم عقولا إلى عقله كالباني لقصر يضع الأحجار المتلونة بوضعية تحصل بها نقوشٌ غريبة من مناظرة وموازاة الكل مع الكل كالعين في الخط المشترك بين الخلفاء الراشدين.
ومن أظهر مسائل هذه المسألة قوله تعالى: {الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين} على ما سمعت سابقا.
وأيضًا من أسباب علوّ الكلام أن يكون كشجرة النسب يتسلسل متناسلا إلى المقاصد التي تتدلى على المقام والغرض.. وأيضًا من أسباب رفعة طبقة الكلام أن يكون مستعدًا لاستنباط كثير من الفروع والوجوه كقصة موسى على نبينا وعليه السلام.

.المسألة العاشرة: معيار سلاسة الكلام ولطافته:

اعلم! أن سلاسة الكلام المنتجة للطافته وحُلْوه هو أن تكون المعاني والحسيات المندمجة فيه ممتزجة تتحد أو مختلفة تنتظم؛ لئلا تتشرب الجوانب قوّة الإفادة والغرض، بل يجذب المركزُ القوّةَ من الأطراف. وأيضًا من السلاسة أن يتعين المقصد، وأيضًا منه أن يتظاهر ملتقى الأغراض.

.المسألة الحادية عشرة: أسباب صحة الكلام وقوته:

اعلم! أن سلامة الكلام التي هي سبب صحته وقوّته هي: أن يكون الكلام بحيث يشير إلى المبادئ والدلائل، ويرمز إلى اللوازم والتوابع، وبقيود الموضوع والمحمول وكيفياتهما يومئ إلى رد الاوهام ودفع الشبهات؛ كأن كل قيد جواب لسؤال مقدّر. وإن شئت مثالا فعليك بفاتحة الكتاب.
من المعلوم أن أسماء الخلفاء الراشدين الاربعة تبدأ بحرف العين وقد استلهم بعض الخطاطين نقشًا بديعًا استعمل فيه حرف العين مشتركًا بين اسمائهم.

.المسألة الثانية عشرة: أنواع الأساليب البيانية:

اعلم! أن الأساليب على ثلاثة أنواع:
أحدها: الأسلوب المجرد، الذي لونه واحد، وخاصته الاختصار والسليقية والسلامة والاستقامة فهو أملس سوي، ومحل استعماله المعاملات والمحاورات والعلوم الآلية. وإن شئت مثالا سلسًا منه فعليك بكتب السيّد الجرجاني.
والثاني: الاسلوب المزين، وخاصته التزيين والتنوير، وتهييج القلب بالتشويق أو التنفير.
والمقام المناسب له الخطابيات كالمدح والذم وغيرهما والاقناعيات ونظائرهما. وإذا تحرّيت المثال المزيّن فادخل في دلائل الإعجاز واسرار البلاغة ترَ فيهما جنانًا مزينة.
والثالث: الاسلوب العالي، وخاصته الشدة والقوّة والهيبة والعلوية الروحانية. ومقامه المناسب الإلهيات والأصول والحكمة. وإن شئت مثلا بينًا وتمثالًا معجِزًا فعليك بالقرآن فإن فيه ما لا عين رأت ولا خطر على قلب بليغ.
انتهى الفصل بتلخيص.
ثم اعلم! أن مدار النظر في آيتنا هذه، وهي {مثلهم كمثل الذي استوقد} الخ:
أوّلًا: نظمها بسابقها.
وثانيًا: النظم بين جملها.
وثالثًا: نظم كيفية جملة جملة؛ فمع استحضار مامضى:
اعلم! أن القرآن الكريم لما صرّح بحقيقة حال المنافقين ونص على جنايتهم عقّبها بالتمثيل لثلاث نكت:
إحداها: تأنيس الخيال الذي هو أطوع للمتخيلات من المعقولات، وتأمين اطاعة الوهم الذي شأنه التشكيكات ومعارضة العقل وانقياده باظهار الوحشي بصورة المأنوس، وتصوير الغائب بصورة الشاهد.
والثانية: تهييج الوجدان وتحريك نفرته ليتفق الحسُ والفكر بتمثيل المعقول بالمحسوس.
والثالثة: ربط المعاني المتفرقة واراءة رابطة حقيقية بينها بواسطة التمثيل.. وأيضا الوضع نصب عين الخيال ليجتني بالنظر الدقائقَ التي أهملها اللسان.
واعلم! أن مآل جمل هذه الآية كما يناسب مآل مجموع قصة المنافقين؛ كذلك يناسب آيةً آيةً منها. ألا ترى أن مآل القصة أنهم آمنوا صورةً للمنافع الدنيوية.. ثم تبطنوا الكفر.. ثم تحيروا وترددوا.. ثم لم يتحرّوا الحق.. ثم لم يستطيعوا الرجوع فيعرفوا. وما أنسب هذا بحال من أوقدوا لهم نارًا أو مصباحًا.. ثم لم يحافظوا عليها.. ثم انطفأتْ.. ثم اُظلموا.. ثم لايتراءى لهم شيء حتى يكون كل شيء معدومًا في حقهم!. فلسكون الليل كأنهم صمّ، ولتعامي الليل وانطفاء أنواره كأنهم عُميٌ، ولعدم وجود المخاطَب والمغيث لايستغيثون كأنهم بُكم، ولعدم استطاعة الرجوع كأنهم أشباح جامدة لا أرواح لها.
ثم أن في المشبَّه به نقطًا أساسية تناظر النقط الأساسية في المشبه. مثلا: الظلمة تنظر إلى الكفر، والحيرة إلى التذبذب، والنار إلى الفتنة. وقس!
إن قلت: أن في التمثيل نورًا فأين نور المنافق حتى يتم تطبيق التمثيل؟
قيل لك: أن لم يكن في الشخص نور ففي محيطه يمكن له الاستنارة.. وأن لم، ففي قومه يمكن الاستضاءة.. وأن لم، ففي نوعه يمكن له الاستفادة.. وأن لم، ففي فطرته كان يمكن له الاستفاضة كما مر.. وأن لم تقنع، ففي لسانه بالنظر إلى نظر غيره أو بالنظر إلى نفسه لترتب المنافع الدنيوية.. وأن لم، فباعتبار البعض من الذين آمنوا ثم ارتدوا.. وأن لم، فيجوز أن يكون النور إشارة إلى ما استفادوا كما أن النار إشارة إلى الفتنة.. وأن لم ترض بهذا أيضًا، فبتنزيل امكان الهداية منزلة وجودها كما أشار إليه اشتروا الضلالة بالهدى فإنه هو الجار الجنب للتمثيل.
أما وجه النظم بين الجمل: فاعلم! أن نظم جملة {مثلهم كمثل الذي استوقد نارًا} مناسبتُها للموقع.
نعم، حال هذا المستوقد على هذه الصورة تطابق مقتضى حال الصفّ الأول من مخاطبي القرآن الكريم وهم ساكنو جزيرة العرب؛ إذ ما منهم إلا وقد عرف هذه الحالة بالذات أو بالتسامع ويحس بدرجة تأثيرها ومشوشيتها؛ إذ بسبب ظلم الشمس يلتجئون إلى ظلمة الليل فيسيرون فيها. وكثيرًا مايغمى عليهم السماء فيصادفون حزن الطرق وقد ينجر بهم الطريق إلى الورطة.. وأيضًا قد يجولون في معاطف الكهوف المشحونة بالمؤذيات فيضلون الطريق فيحتاجون لإيقاد النار أو اشتعال المصباح ليبصروا رفقاءهم حتى يستأنسوا ويروا أهبتهم وأشياءهم كي يحافظوا عليها، ويعرفوا طريقهم ليذهبوا فيها ويتراءى لهم الضواري والمهالك ليجتنبوا. فبينما هم استضاؤا بنورهم إذ اختطفتهم آفة سماوية.. وبينما هم في ذروة كمال الرجاء وآن الظفر بالمطلوب إذ سقطوا في حضيض اليأس المطلق. فنص على هذا الحال بقوله: {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم}.
اعلم! أن هذه الفاء تشير إلى أنهم أوقدوا النار ليستضيؤا فاضاءت فاطمأنوا بالاستضاءة فتعقبهم الخيبة وسقطوا في أيديهم. وما أشد تأثير العدم عليهم في آن انتظار الحصول!. ثم أن هذه الشرطية تستلزم استلزام الاضاءة لذهاب النور. وخفاء هذا الاستلزام يشير إلى تقدير ما يظهر به اللزوم هكذا: فلما اضاءت استضاؤا بها فاشتغلوا.. فلم يحافظوا.. فلم يهتموا بها، ولم يعرفوا قدر النعمة فيها.. فلم يمدوها.. فلم يديموها؛ فانطفأت. لأنه لما كانت الغفلة عن الوسيلة للاشتغال بالنتيجة- بسر {اِنَّ الاِْنْسَانَ لَيَطْغَى أن رَآهُ اِسْتَغْنَى}- سببًا لعدم الإدامة المستلزم للانطفاء كان كأن نفسَ الاضاءة سبب لذهاب النور.
أما جملة {وتركهم في ظلمات} فبعدما أشار إلى خسرانهم بذهاب النعم بزوال النور عقبه بخذلانهم بنزول النقم بالسقوط في الظلمات.
أما جملة {لا يبصرون} فاعلم! أن الإنسان إذا اظلم عليه وأضل السبيل فقد يسكن ويتسلى برؤية رفقائه ومرافقه، وإذا لم يبصرهما كان السكون مصيبة عليه كالحركة بل أوحش.
أما {صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون} فاعلم! أن الإنسان إذا وقع في مثل هذا البلاء قد يتسلى ويأمل ويرجو النجاة من جهات أربع مترتبة:
فأولًا: يرجو أن يسمع تناجي الخلق من القرى أو أبناء السبيل؛ إن يستمِدْ يَمدّوه. ولما كانت الليلة ساكنة بكماءَ استوى هو والأصم، فقال: {صُم} لقطع هذا الرجاء.
وثانيًا: يأمل أنه إن نادى أو استغاث يُحتمل أن يسمع أحدٌ فيغيثه، ولما كانت الليلة صماء كان ذو اللسان والأبكم سواء فقال: {بُكم} لإلقامهم الحجر بقطع هذا الرجاء أيضًا.
وثالثًا: يأمل الخلاص برؤية علامة أو نار أو نيّرٍ تشير له إلى هدف المقصد. ولما كانت الليلة طامية رمداء عبوسة عمياء كان ذو البصر والأعمى واحدًا فقال: {عُميٌ} لإِطفاء هذا الأمل أيضًا.
ورابعًا: لايبقى له إلا أن يجهد في الرجوع، ولما أحاط به الظلمة كان كمن دخل في وحْلٍ باختياره وامتنع عليه الخروج. نعم، كم من أمرٍ تذهب إليه باختيار ثم يُسلَب عنك الاختيار في الرجوع عنه تخلّيه أنت ولا يخليك هو، فقال تعالى: {فهم لا يرجعون} لسد هذا الباب عليهم وقطع آخر الحبل الذي يتمسكون به، فسقطوا في ظلمات اليأس والتوحش والسكونة والخوف.
أما الجهة الثالثة، أعني:
نظم قيودات جملة جملة، فانظر إلى {مثلهم كمثل الذيِ استوقد نارًا} كيف تتطاير شرارات النكت من قيوداتها.
أما لفظ المثل فإشارة إلى غرابة حال المنافقين وأن قصتهم أعجوبة؛ إذ المَثَل هو الذي يجول على الألسنة ويتناقله الناس لتضمنه لغرابة؛ إذ أخصّ صفاته الغرابة. ثم لاندماج قاعدة أساسية في الأمثال يقال لها: حكمة العوام وفلسفة العموم.
فالمراد بالمثل هنا صفتهم الغريبة وقصتهم العجيبة وحالهم الشنيعة. ففي التعبير بالمَثَل مجازًا إشارة إلى الغرابة، وفي الإشارة رمز إلى أن من شأن صفتهم أن تدور على لسان النفرة والتلعين كضرب المثل.
وأما الكاف:
فإن قلت: إن حُذف كان تشبيهًا بليغًا فهو أبلغ؟
قيل لك: الأبلغ في هذا المقام ذكره، إذ التصريح به يوقظ الذهن بأن ينظر إلى المثال تبعيًا فينتقل عن كل نقطة مهمة منه إلى نظيرها من المشبه. وإلا فقد يتوغل فيه قصدًا فتفوت منه دقائق التطبيق.
وأما المَثَل الثاني فإشارة إلى أن حال المستوقد بغرابته ووجوده في حس العموم كان في حكم ضرب المثل.
وأما الذي:
فإن قلت: كيف افردَ مع أنهم جماعة؟
قيل لك: إذا تساوى الجزء والكل والفرد والجماعة ولم يؤثر الاشتراك في صفة الفرد زيادة ونقصانا جاز الوجهان مثل {كمثل الحمار} ففي افراده إشارة إلى استقلال كل فرد في تمثل الدهشة وتصوير شناعتهم، أوكان الذي الذين فاختُصر.
وأما {استوقد} فسينُه إشارة إلى التكلف والتحري. وفي افراده مع جمع الضمير في نورهم رمز لطيف إلى أن فردًا يوقدُ لجماعةٍ. ولقد ألطف في الإفراد إيقادًا والجمع استنارة.
وأما {نارًا} بدل المصباح أو غيره فإشارة إلى المشقة في نور التكليف، ورمز إلى أنهم يوقدون تحت النور الظاهري نارَ فتنة. وأما تنكيره فايماء إلى شدة احتياجهم حتى أنهم يرضون بأية نار كانت.
ثم أجل النظرَ فيما حول جملة {فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم} لترى كيف تضئ قيوداتُها على ظلمات الدهشة التي هي الغرض الأساسي. ولقد سمعت في المسألة الرابعة أن قوة الكلام بتجاوب القيود:
أما الفاء فإيماء إلى أن هجوم اليأس المطلق تعقب كمال الرجاء.
وأما لما فلتضمنه قياسًا استثنائيًا مستقيمًا مع دلالته على تحقق المقدم ينتج تحقق التالي وقطع التسلي.
وأما {أضاءت} فإشارة إلى أن الايقاد للاستنارة لا للاصطلاء. وفيه رمز إلى شدة الدهشة إذ ما أفاد لهم الاضاءة إلا رؤية المهالك والعلم بوجودها. ولولاها لأمكن مغالطة النفس وتسكينها.
وأما {ما حوله} فإشارة إلى احاطة الدهشة من الجهات الأربع، وإلى لزوم التحفظ بالاضاءة عن هجوم الضرر عن الجهات الست.
وأما {ذهب} فلأنه جزاء الشرط، لابد أن يكون لازمًا. ولخفاء اللزوم- كما مر- يرمز إلى أنهم لم يتعهدوها ولم يعرفوا قَدْرَ النعمة فيها فبنفس الاضاءة اُخذوا عن أنفسهم وأنساهم البطر والفرح تعهّدها فأخذها الله عنهم.
وأما اسناد {ذهب} إلى {الله} فإشارة إلى قطع رجاءين: رجاء التعمير ورجاء الرحمة؛ لأنه يشير إلى أن الآفة سماوية لاتقبل التعمير، ويرمز إلى أنه جزاءٌ لقصور المرء، ولهذا يأخذه الله تعالى. فينقطع المتمسك به عند انقطاع الأسباب وهو أمل الرحمة، إذ لايستعان من الحق على ابطال الحق.
وأما الباء فإشارة إلى اليأس عن العَود؛ إذ لا راد لما أخذه الله للفرق البيّن بين ذهب به أي استصحبه، وبين اذهبه أي ارسله، وذهب أي انطلق؛ لإمكان العود في الآخِرَين دون الأول.
وأما النور ففيه إيماء لطيف إلى تذكر حالهم على الصراط.
وأما الاضافة في هم المفيدة للاختصاص فإشارة إلى شدة تأثرهم؛ إذ مَن انطفأت نارُه فقط مع أن نار الناس تلتهب أشد تألما.
ولله درّ التنزيل ما ألطفه في فنون البلاغة! ألم تر كيف توجهت هيئاتها إلى الغرض الكليّ، أعني الدهشة مع اليأس، كالحوض في ملتقى الأودية؟
ثم امعن النظر في {وتركهم في ظلمات لايبصرون}:
أما الواو فإشارة إلى أنهم جمعوا بين الخسارتين؛ سُلبوا ضياءً وأُلبسوا ظلمةً.
أما تَرَك بدل أبقى أو غيره فإشارة إلى أنهم صاروا كجسد بلا روح وقشر بلا لبّ. فمن شأنهم أن يُتركوا سدى ويُلقوا ظهريا.
وأما {في} فرمز إلى أنه انعدم في نظرهم كل شيء ولم يبق إلا عنوان العدم وهو الظلمة فصارت ظرفًا وقبرًا لهم.
وأما جمع {ظلمات} فايماء إلى أن سَواد الليل وظلمة السحاب أولَدتا في روحهم ظلمة اليأس والخوف، وفي مكانهم ظلمة التوحش والدهشة، وفي زمانهم ظلمة السكون والسكوت، فأحاطت بهم ظلمات متنوعة.. وأما تنكيرها فايماء إلى أنها مجهولة لهم لم يسبق لهم الُفْة بمثلها فتكون أشد وقعا.
وأما {لا يبصرون} فتنصيص على اساس المصائب، إذ مَن لم ير كان ارأى للبلايا، وبفقد البصر يبصر أخفى المصائب. وأما المضارعية فلتصوير وتمثيل حالهم نصب عين الخيال ليرى السامع دهشتهم فيتحسس بوجدانه أيضًا.
وأما ترك المفعول فللتعميم، أي لايرون منافعهم ليحافظوها، ولا يبصرون المهالك كي يجتنبوا عنها. ولا يتراءى الرفقاء ليستأنسوا بهم، فكأن كل واحد فرد برأسه.
ثم انظر إلى جمل {صم بكم عمي فهم لايرجعون} لتسمع ما تتناجى به؛ إذ هذه الأربعة حدٌّ مشترك بين الممثل والممثل به، وبرزخ بينهما ومتوجهة اليهما؛ تتكلم عن حال الطرفين. ومرآة لهما تريك شأنهما. ونتيجة لهما تسمعك قصتهما.
أما الجهة الناظرة إلى الممثل به:
فاعلم! أن من سقط في مثل هذه المصيبة يبقى له رجاء النجاة باستماع نجوى منجٍ، فاستلزمت ابكمية الليلة اصميته.. ثم اسماع مغيث فاقتضت اصمية الليل ابكميته.. ثم الهدى برؤية نار أو نيّر فانتج تعامي الليل عميه.. ثم العود إلى بدءٍ فانسد عليه الباب كمن سقط في وحل كلما تحرك انغمس.
وأما الجهة الناظرة إلى الممثل:
فاعلم! أنهم لما وقعوا في ظلمات الكفر والنفاق امكن لهم النجاة عن تلك الظلمات بطرق أربعة مترتبة:
فاوّلًا:
كان عليهم أن يرفعوا رؤسهم ويستمعوا إلى الحق ويصغوا إلى ارشاد القرآن، لكن لما صارت غلغلة الهوى مانعة لأن يخلُص صدى القرآن إلى صماخهم، وأخذ التهوس بآذانهم جارًا لهم عن تلك الطريق، نعى عليهم القرآن بقوله: {صم} إشارة إلى أنسداد هذا الباب ورمزًا إلى أن آذانهم كأنها قطعت وبقيت ثقبات مشوهة أو قطعات متدلية في جوانب رءوسهم.
وثانيًا:
لابد لهم أن يخفضوا رؤسهم ويشاوروا وجدانهم فيسألوا عن الحق والصراط، لكن لما أخذ العناد على يد لسانهم وجره الحقد من خلف إلى الجوف، ألقمهم القرآن الحجر بقوله: {بكم} اشارةً إلى أنسداد هذا الباب أيضا في وجوههم ورمزًا إلى أنهم بالسكوت عن الاقرار بالحق كانوا كمن قلع لسانه فبقي الفم ككهف خلا عن ساكنه مشوهًا للوجه.
وثالثًا:
لزمهم أن يُرسلوا انظار العبرة لتجتني لهم الدلائل الآفاقية، لكن وضعَ التغافلُ يدَه على عيونهم وردّ- وطرد- التعامي الأنظار إلى أجفانهم. فقال القرآن: {عميٌ} إشارة إلى أنهم عمهوا عن هذا الطريق أيضًا. ورمزَ بحذف أداة التشبيه إلى أن عيونهم التي هي أنوار الرأس كأنها قلعت فبقيت نُقرات مشوّهة في جباههم.
ورابعًا:
لابد من أن يعرفوا قبح حالهم القبيح ليتنفروا فيندموا فيتوبوا فيرجعوا. لكن لما زيّنت لهم أنفسُهم- لأجل فساد الفطرة بالاصرار وغلبة الهوى والشيطان- تلك القبائحَ، قال القرآن: {فهم لايرجعون} إشارة إلى أنسداد آخر الطرق عنهم، ورمزًا إلى أنهم وقعوا باختيارهم فيما لا اختيار لهم في الخروج كالمضطرب في بحر الرمل.
اَوْ كَصَيِّب مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ اَصَابِعَهُمْ فِي إذانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ وَالله مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ 19 يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ اَبْصَارَهُمْ كُلَّما اَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإذا اَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَاَبْصَارِهِمْ أن الله عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ 20.
اعلم! أن مدار النظر في هذه الآية ايضا من ثلاثة وجوه، نظمها بسابقتها، والنظم بين جملها، ثم النظر بين هيئات جملة جملة. مثلها في الارتباط كمثل الامْيال العادّة للساعات والدقائق والثواني.
أما وجه النظم بينها وبين سابقتها فهو: أنه كرر التمثيل واطنب في التصوير اشارةً إلى احتياج تصوير حال المنافقين في دهشتهم وحيرتهم إلى نوعين منه، إذ:
خلاصة التمثيل الأول هي:
أن المنافق يرى نفسَه في صحراء الوجود منفردةً عن الأصحاب مطرودةً عن جمعية الكائنات خارجةً عن حكم شمس الحقيقة. يصير كلُ شيء في نظره معدومًا ويرى المخلوقات اجنبية كلها، ساكنة وساكتة استولى عليها الوحشة والخمود. وأين هذا من حال المؤمن الذي يرى بنور الإيمان كل الموجودات احبّاءه ويستأنس بكل الكائنات؟
وخلاصة التمثيل الثاني هي:
أن المنافق يظن أن العالَم بأجزائه ينعي عليه بمصائبه ويهدده ببلاياه ويصيح عليه بحادثاته ويحيط به بنوازله كأن الأنواع اتفقوا على عداوته فانقلب النافع ضارًا. وما هذه الحالة إلا لعدم نقطتي الاستمداد والاستناد كما مر. واين هذا من حال المؤمن الذي يسمع بالإيمان تسبيحات الكائنات وتبشيراتها؟
وأيضًا تكرار التمثيل إيماء إلى أنقسام المنافقين إلى الطبقة السفلية العامية المناسبة للتمثيل الأول وإلى الطبقة المتكبرة المغرورة الموافقة للتمثيل الثاني.
وأما مناسبة هذا التمثيل لمقامه بالنظر إلى السامع فهي: أن الصف الأول من مخاطبي القرآن ابناء الفيافي يفترشون الصحارى ويتخيّمون بفسطاط السماء. وما منهم إلا وقد رأى بنفسه أو سمع من أبناء جنسه مثل هذه الحادثة حتى استأنس بها حسُّ العموم؛ بحيث تؤثّر فيه كضرب المثل.
وأما مناسبته للتمثيل الأول فأظهر من أن يخفى، إذ هو كالتكملة والتتمة له مع الاتحاد في كثير من النقط.
وأما مناسبة التمثيل للممثل له فبخمسة وجوه:
منها: وقوعهما كليهما في شدة الحيرة بانسداد كل طرق النجاة عليهم، وبان ضلت جميعُ أسباب الخلاص عنهم.
ومنها: وقوعهما في شدة الخوف حتى يتخيل كل من المشبه والمشبه به، أن الموجودات اتفقت على عداوته ولا يأمن من بقائه في كل دقيقة.
ومنها: وقوعهما في شدة الدهشة المنتجة لاختبال العقل حتى أن كلًا منهما يتبلّه. كمثل من يرى برق السيوف فيتحفظ بغمض بصره أو يسمع تقتقة البنادق فيتجنب عن الجرح بسد سمعه. أو كمثل من لا يحب غروب الشمس فيمسك دولاب ساعته لئلا يدور جرخ الفلك الدوّار، فما أخبلهم!.. إذ الصاعقةُ لا تنثني بسد الاسماع، والبرقُ المحرق لايترحم عليهم بغضِّ الأبصار. ومن هنا يُرى أن لم يبق لهم ممسك.
ومنها: أن الشمس والمطر والضياء والماء كما إنها منابع حياة الأزاهير وتربية النباتات، وسبب تعفن الميتات ونتن القاذورات؛ كذلك أن الرحمة والنعمة إذا لم تصادفا موقعَهما المنتظر لهما والعارف بقيمتهما، تنقلبان زحمة ونقمة.
ومنها: أنه كما يوجد التناسب بين المآلين الذي هو الأصل في انعقاد الاستعارة التمثيلية بلا نظر إلى تطبيق الأجزاء؛ كذلك يوجد مناسبات هنا بين أجزائهما؛ إذ الصيِّب حياة النباتات كما أن الاسلامية حياة الأرواح، والبرق والرعد يشيران إلى الوعد والوعيد، والظلمات تريك شبهات الكفر وشكوك النفاق.
وأما وجه النظم بين الجمل:
فاعلم! أن التنزيل لما قال: {أو كصيب من السماء} مشيرًا إلى أنهم كالذين اضطروا إلى السفر في صحراء موحشة في ليلة مظلمة تحت مطر شديد، كأن قطراتِه مصائبُ تصيب مرماها بصَوبها وقد ملأت الجوّ بكثرتها؛ استيقظ ذهن السامع منتظرًا لبيان السبب في أن صار الصيّبُ الذي هو في الأصل رحمة مرغوبة مصيبةً هائلة فقال مصورًا لدهشته: {فيه ظلمات} مشيرًا إلى أن المطر كما هو ظرف لظلمة السحاب ولكثافته؛ كذلك لأجل عمومه وكثرته واحاطته كأنه ظرف للّيلة المُتَفَتِتَة قطراتٍ مسودةً بين قطراته.. ثم ما من سامع يسمع {فيه ظلمات} إلا وينتظر لبيان. كأن المتكلم سمع صدى الرعد من ذهن السامع فقال: {ورعد} مشيرًا إلى تهويل الحال وتشديدها بأن السماء أميرة الموجودات عزمت على اهلاكهم، وتصيح عليهم برعدها؛ إذ المصاب المدهوش يتخيل من الكائنات المتعاونة على اضراره حركة مزعجة تحت سكونها، ونطقًا مهيبًا تحت سكوتها. فإذا سمع الرعد توهَّم إنها تتكلم بما يهدده وتصيح عليه؛ إذ بالخوف يحسب كل صيحة عليه.. ثم أن السامع لايسمع الرعد إلا ويستهل فيبرق في ذهنه رفيقه الدائميّ، ولذلك قال: {وبرق} مشيرًا بالتنكير إلى أنه غريب عجيب. نعم! هو في نفسه عجيب؛ إذ بتولده يموت عالمٌ من الظلمات فتطوى وتلقى إلى العدم، وبموته فجأة يحيى ويحشر عالم من الظلمات. كأنه نار حينما تنطفئ تورث ملء الدنيا دخانًا. ومن شأن المصاب بها أن يمعن النظر ولا يمر بنظر سطحي بناء على الألفة والمناسبة حتى يتكشف عن دقائق صنع القدرة.. ثم بعد هذا التصوير كأن ذهن السامع يتحرك سائلا: كيف يعملون؟ وبِمَ يتشبثون؟ فقال: {يجعلون أصابعهم في اذانهم من الصواعق حذر الموت} مشيرًا إلى أن لامناص ولا ملجأ ولا منجى لهم حتى أنهم كالغريق يتمسكون بما لايُتَمَسك به. فمن التدهش يستعملون الأصابع موضع الأنامل كأن الدهشة تضرب على أيديهم فيدخلون الأصابع من الوجع في الآذان ومن التبله أنهم يسدون الآذان لئلا تصيبهم الصواعق.. ثم بعد هذا يتحرى ذهنُ السامع سائلا: أعمّت المصيبة أم خصّت فيُرجى؟ فقال: {والله محيط بالكافرين} مشيرًا إلى أن هذه المصيبة جزاءٌ لكفرانهم النعمة. يؤاخذهم الله تعالى به لشذوذهم عن القانون الالهي المودع في الجمهور. ثم لما سمع شدة الرعد يحدّث نفسه بألا يفيدهم البرق بأراءة الطريق؟ فقال: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} مشيرًا إلى أنه كما أن الرعد يعاديهم فلا يستطيعون السمع؛ كذلك البرق يخاصمهم باضاءته فيظلم أبصارهم.. ثم بعد سماع تجاوب الكائنات على عداوتهم ينادي ذهن السامع بفما مصير حالهم وما يفعلون؟ وبمه يشتغلون؟ فقال: {كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا اظلم عليهم قاموا} مشيرًا إلى أنهم مشوشون مترددون متحيرون مترقبون لأدنى فرصة ولأدنى رؤية للطريق. فكلما تراءت لهم يتحركون لكن كحركة المذبوح لاضطراب أرواحهم، ويتخطون خطى يسيرة مع علمهم بأن لا فائدة، وكلما غشيتهم الظلمة فجأة ينجمدون في مقامهم.. ثم يستعد ذهنُ السامع للاستفسار بلِمَ لا يموتون أو يعمون أو يصمون بالمرّة فيخلصون عن الاضطراب؟
فقال: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} أي ليسوا مستحقين للخلاص من الاضطراب ولهذا لاتتعلق المشيئة باماتتهم ولو تعلقت لتعلقت بذهاب سمعهم وبصرهم. ولكن بقاء السمع لاستماع العقاب ووجود البصر لرؤية العذاب أجدر بمن شذ ونشز عن قانونه تعالى.
ثم أن هذه القصة لما احتوت على نقاط يتلوح من معاطفها استطرادًا: العظمة والقدرة الالهية وتصرفه تعالى في الكائنات، ولاسيما يتذكر السامع تبعا في تلافيفها عجائب الرعد والبرق والسحاب، كان من حق السامع المتيقظ وجدانُه أن يعلن ويقول: سبحانه ما أعظم قدرةَ مَنْ هذه الكائنات تجلِّي هيبته وهذه المصيبات تجلِّي غضبه. فقال: {إن الله على كل شيء قدير}.
وأما نظم هيئات جملة جملة:
فاعلم! أن {أو} في {أو كصيب} إشارة إلى أنقسام حال الممثل إلى قسمين، ورمز إلى تحقيق المناسبة بين التمثيلين وبينهما وبين الممثل له وايماء إلى مسلّمية المشابهة.. وأيضا متضمن لبل الترقية؛ إذ التمثيل الثاني اشدّ هَوْلًا. وأن {كصيب} لعدم مطابقته للمثل يقتضي تقدير لازم، والسكوت عن اظهار المقدر للايجاز، والايجاز في اللفظ لاطناب المعنى باحالته على خيال السامع بالاستمداد من المقام. فبعدم المطابقة كأنه يقول: أو كالذين سافروا في صحراء خالية وليلة مظلمة فاصابتهم مصائب بصيب. وأن العدول عن لفظ المطر المأنوس المألوف إلى الصيب رمز إلى أن قطرات ذلك المطر كمصائب ترمى اليهم بقصد فتصيبهم مع فقد الساتر عليهم.
وان ذكر {من السماء} مع بداهة أن المطر لا يجئ إلا من جهتها إيماء بالتخصيص إلى التعميم وبالتقييد إلى الاطلاق نظير التقييد في {ومَا مِنْ دابّةٍ في الأرضِ ولا طائر يطير بجناحيه} أي مطبق آخذ بآفاق السماء. وما استدل بعض المفسرين بلفظ من السماء هنا وفي آية: {ويُنَزِّلُ من السماءِ من جبالٍ فيها مِن بَرَدٍ} على نزول المطر من جرم السماء حتى تخيل بعض وجود بحر تحت السماء، فنظرُ البلاغة لايرى عليه سكةَ الحقيقة. بل المعنى: من جهة السماء. والتقييد لما عرفت. وقد قيل السماء ما علاك، فالسحاب كالهواء سماء.
وتحقيق المقام: هو إنك أن نظرت إلى القدرة تتساوى الجهاتُ أي يمكن النزول من أية جهة كانت. وأن نظرت إلى الحكمة الالهية المؤسِّسة للنظام الأحسن في الأشياء المستلزِم لمحافظة الموازنة العمومية المرجِّحة لأقرب الوسائل فالمطر إنما هو من تكاثف البخار المائي المنتشر في كرة الهواء التي احد أجزائها العشرة ذلك البخار المائيّ المنتشر في أعماقها.
وتوضيحه: أن ذراته إذا امرتها الإرادة الالهية، يتمثل كلٌ، ويتسللن من الأطراف ومن كل فج عميق. فيتحزَّبن سحابًا هامرًا. ثم بارادة آمرها يشتدّ تكاثفُ بعضٍ فتصير قطراتٍ تأخذها بأيديهم الملائكةُ الذين هم ممثلو القوانين ومعكس النظامات لئلا يزاحم ويصادم بعضٌ بعضًا فيضعونها على الأرض. ولأجل محافظة الموازنة في الجوّ لابد من بدلِ ما يتحلل بالتقطر، فيُبخَّر البحر والأرض فيملأ منازلها. وأما تخيل بعضٍ وجود بحر سماويّ فمَحْمله أنه تصور المجاز حقيقةً؛ إذ لاراءة خضرة الجوّ لون البحر، ولاحتواء الجو على ماء أكثر من البحر المحيط ما استبعد تشبيهه بالبحر.
أما {وينزّل من السماء من جبال فيها من برد} فاعلم! أن الجمود على الظاهر مع التوقد في استعارتها جمود بارد وخمود ظاهر. إذ كما تضمن {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ}.
استعارة بديعة؛ كذلك يحتوي {مِنْ جِبَالٍ فيها مِنْ بَرَدٍ} على استعارة بديعة عجيبة مستملحة. فكما أن ظروف الجنة لم تكن من الزجاجة ولامن الفضة بل في شفافية الزجاج وبياض الفضة ومن حيث أن الزجاجة لاتكون من الفضة لتخالف النوعين اشار إلى الاستعارة بالاضافة بذكر من، كذلك {من جبال فيها من برد} متضمنة لاستعارتين مؤسستين على خيال شعريّ بالنظر إلى السامع. وذلك الخيال مبني على ملاحظة المشابهة والمماثلة بين تمثل العالم العلويّ وتشكل العالم السفليّ. وتلك الملاحظة مبنية على تصور المسابقة والرقابة بين الأرض والجوّ في لبس الصور من يد القدرة كأن الأرض لما برزت بجبالها اللابسة للبيض من حلل الثلج والبَرَد في الشتاء، والمتعممة بها في الربيع. ثم تزينت في الصيف ببساتينها المتلونة فأظهرت في نظر الحكمة بانقلاباتها معجزة القدرة الالهية، قابلَها جوُّ السماء محاكيًا لها مسابقًا معها لإظهار معجزة العظمة الالهية فبرز متبرقعًا ومتقمصًا بالسحاب المتقطع جبالا وأطوادًا وأودية، والمتلون بألوان مختلفة مصورة لبساتين الأرض، ملوحا ذلك الجو بأجلى دلائل العظمة وأجلها. فبناء على هذه الرؤية والمشابهة والتوهم الخياليّ استحسن أسلوب العرب تشبيه السحاب لاسيما الصيفيّ بالجبال والسفن والبساتين والأودية وقافلة الإبل كما تسمع من العرب في خطبهم. فيخيل إلى نظر البلاغة أن قطعات السحاب الصيفي سيارة وسبّاحة في الجو، كأن الرعد راعيها وحاديها كلما هزّ عصا بَرقه على رؤسهم في البحر المحيط الهوائي اهتزت تلك القطعات وارتجت، وتراءت جبالا صادفت الحشر، أو سفنا يلعب بها يد العاصفة، أو بساتين ترججها من تحتها الزلزلة، أو قافلة شردت من هجوم قطاع الطريق. ومع ذلك يسيرون ويجرون بأمر خالقهم حتى كأن كل ذرة من ذرات ذلك البخار تكمَّنتْ في مكانها اوّلا ساكتة ساكنة منتظرة لأمر خالقها. ولما ناداها الرعدُ- كالآلة المعروفة في العسكر- بحَيَّ على الاجتماع والاتحاد! تسارعوا من منازلهم مهطعين إلى داعيهم فيحشرون سحابا. ثم بعد ايفاء الوظيفة وأمرهم بالاستراحة يطير كل إلى وكره.. فبناء على هذه المناسبة الخيالية، وعلى المجاورة بين السحاب والجبال- إذ الجبل لجذب الرطوبة يتظاهر ويتشكل السحاب عليه بمقداره ويلبس لباسه- وعلى تلون السحاب بنظير بياض الثلج والبرد وتكيفه برطوبتهما وبرودتهما، وعلى وجود الأخوة بينهما ومبادلة الصورة واللباس لهما في كثير من مواضع القرآن ومصافحتهما في منازل التنزيل كمحاورتهما ومعانقتهما في كثير من سطور صحيفة الأرض من كتاب العالم فترى السحاب متوضعا على الجبل ويصير الجبل كأنه مرسى لسفن السحاب ترسى عليه، أو مجلس تتشاور عليه، أو وكر تطير إليه- استحق بحكم المجاورة في نظر البلاغة أن يتبادلا ويستعيرا لوازمهما فيعبّر عن السحاب بالجبل- مع تناسي التشبيه. فإذا قد عرفت ما سمعت من المناسبات ف {يُنزّل من السماء} أيْ من جهة السماء.
{من جبال} أي من سحاب كالجبال.
{من برد} أي في لونه ورطوبته وبرودته.
فيا هذا! ما أجبرك مع وجود هذا التأويل الذي تقبله البلاغة على اعتقاد نزول المطر بدقيقتين من مسافة خمس مائة سنة المخالف لحكمة الله الذي اتقن كل شيء صنعًا.
أما هيئات جملة: {فيه ظلمات} المسوقة للتهويل؛ فتقديم {فيه} إشارة إلى أن خيال المصاب المدهوش والسامع المستحضر خياله لتلك الحال يتوهم أن ظلمات الليالي الكثيرة افرغت بتمامها في تلك الليلة. وأما الظرفية مع أن الصيب مظروف فرمز إلى أن المتدهش بتلك المصيبة يظن فضاء العالم حوضا قد ملئ من المطر، فما الليل إلا مظروف مفتت بين أجزائه.
وأما جمع الظلمات فايماء إلى تنوعها من ظلمة سواد السحاب وكثافته وانطباقه، ومن تقارب دفعات المطر وتكاثف قطره، ومن تضاعف ظلمة الليل. وأما تنكير {ظلمات} فللاستنكار، ولجهل المخاطب فهو تأكيد {ظلمات}.
وأما جملة {ورعد وبرق} فاعلم! أن المقصد تصوير حيرتهم ودهشتهم، وأن المصاب المتحير يجمع تمام دقته ونظره إلى أدنى حادث. فلإمعان النظر يتفطنون لما في الرعد والبرق من الانقلابات العجيبة والتحول الغريب. إذ بينما يرى المصابون ظلمة استولت على الكائنات وابتلعت الموجودات- نظير العدم- فتنقلب حيرتُهم بالغمِّ اليتميّ والسكوت الميتيّ؛ إذ يرون اظهر دلائل الوجود، وهو تكلم العلويات، ثم ظهورها بكشف الحجاب فينقلب نظرهم إلى نظر المدهوش المتحير الخائف؛ إذ كما أنهم إذا رأوا ظلمات غير محصورة في فضاء غير متناه، لا ضعفَ فيه بجانبٍ يُبقي لهم أملًا، ينظرون نظر اليأس؛ كذلك إذا فاجأهم بغتة انعدام الظلمات بأن افرغت من الفضاء، وملئ بدلها نورًا ينقلب يأسهُم المطلق إلى رجاء.
اعلم! أن الرعد والبرق آيتان ظاهرتان من جهة العالم الغيبيّ في أيدي الملائكة الموكلين على عالم السحاب لتنظيم قوانينه. ثم أن الحكمة الالهية ربطت الأسباب بالمسَّببَات فإذا تشكل السحاب من بخار الماء المنتشر في الهواء؛ صار قسم حاملًا للالكتريك المنفي وقسم حاملًا للالكتريك المثبت؛ فحينما يتقاربان يتصادمان دفعة فيتولد البرق. ثم بالهجوم والانقلاع دفعة وامتلاء موضعه بآخر لعدم الخلو، يهتز وتتموج الطبقات فيتولد صدى الرعد. ولا تجري هذه الحالات إلا تحت نظام وقانون يتمثلهما مَلَك الرعد والبرق. وأما ظرفية الصيّب لهما مع أن الظرف هو السحاب فلأن المدهوش والسامع المتدهش بدهشته يرى الصيب محيطا بكل شيء لإحاطته بنفسه. وأما إفراد الرعد والبرق مع جمع الظلمات، فإشارة إلى أن منشأ الدهشة تخيل المصاب تكلمَ السماء وتهديدَها بالإرعاد، وكشفَ الحجاب بالابراق، وهما معنى مصدريّ للكلام واليد البيضاء. وأيضا كل منهما نوع واحد وأن تعددت أفراده.
وأما تنوين {رعدٌ وبرقٌ} فبدل من الصفة، أي: رعد قاصف وبرق خاطف، ودالة على عدم الألفة بهما بسبب التفطن بالدقة لما فيهما من العجائب.. وأيضًا فيها إيماء إلى أنهم لايعرفون ذلك الرعد والبرق لسد السمع وغض البصر.
وأما هيئات جملة {يجعلون أصابعهم في اذانهم من الصواعق حذر الموت}.
فاعلم! إنها جواب لسؤال مقدر واستيناف حسن؛ إذ السامع لما توجه إلى هذه القصة الحسية التمثيلية حصل له ميلان شديد لكشف حال المصيبة. ثم بعد أن كمّل التصوير التصويرَ وقضى منه الوطر انثنى مجرى الميلان إلى كشف حال المصاب. فكأنه يقول السائل: كيف حال المصاب حينئذ وبم يتشبث للنجاة؟ فأجاب القرآن بقوله: {يجعلون اصابعهم}. إلخ. أي لامناص لهم، إنما هم كالغرقى يتمسكون بغير متمسك فيريدون التحفظ من مجانيق السماويين بسد الأسماع. وكونه سببًا محالٌ، فلا سبب.
وأما لفظ {يجعلون} بدل يدخلون فايماء إلى أنهم تحروا الأسباب فما صادفوا إلا ماسببيته بجعلهم وظنهم فقط.. وصورة المضارع المستحضرة للحال فرمز إلى أن السامع في مثل هذا المقام المهيج للحيرة يحضر بخياله زمان الواقعة ومكان الحادثة. ثم في المضارع استمرار تجددي. وفي استمراره إيماء إلى تواتر تقتقة السحاب.
وأما {أصابعهم} بدل أناملهم فإشارة إلى شدة الحيرة باستعمال الأصابع موضع الأنامل.
وأما في {اذانهم} فايماء إلى شدة الخوف من صدى الرعد حتى يخيل اليهم أنه لو دخل الرعد في شبكة الآذان لطيّر الأرواح من أبواب الأفواه. وفيه رمز لطيف إلى أنهم لما لم يفتحوا آذانهم لنداء الحق والنصيحة عوقبوا من تلك الجهة بنعرات الرعد، فسدوا هنا ما سدوا هناك، كمن أخرج كلاما شنيعا مِن ِفيهِ يُضْرَب على فمه فيدخُل يمين الندامة في فيه ويضع يسار الخجالة على عينه.
وأما {من الصواعق} فإشارة إلى اتحاد الرعد والبرق على اضراره؛ إذ الصاعقة صوت شديد معه نار محرقة تصرع من صادف.
وأما {حذر الموت} فإشارة إلى أن البلاء جذّ اللحم إلى العظم، وجاز الأحوال إلى الحياة، فما يعنيهم إلا غم الموت وحفظ الحياة.
وأما هيئات جملة {والله محيط بالكافرين}.
فاعلم! أن الواو تقتضي المناسبة، وما المناسبة إلا بين هذه وبين التابع لمآل السابقة. فكأن هذه الواو تقرأ عليهم: هم قوم فروا من العمارة ونفروا من الحضارة وعصوا قانون كون الليل سباتا ولم يطيعوا نصيحة الناصح فظنوا النجاة بالخروج إلى الصحراء فخابوا وأحاط بهم بلاء الله.
وأما لفظ {الله} فرمز إلى قطع آخر رجائهم؛ إذ المصاب إنما يلتجئ ويتسلى اولًا وآخرًا إلى رحمة الله، فحين استحقوا غضب الله تعالى انطفأ ذلك الرجاء.
وأما لفظ {محيط} فايماء إلى أن هذه المصائب المحيطة آثار غضبه تعالى، فكما أن السماء والسحاب والصيّب والليل تهجُم عليهم من الجهات الست؛ كذلك غضبه تعالى وبلياته محيطة بهم.. وأيضًا علمه تعالى وقدرته محيطان بكل الكائنات، وأمره شامل لكل الذرات. فكأن {محيط} يتلو عليهم: لاتنفذون من أقطار السموات والأرض، {فأينما تولوا فثمَّ وجه الله}.
وأما تعلق الباء فرمز إلى أنهم وقعوا فيما هربوا عنه فصاروا هدفا للسهام.
وأما التعبير بالكافرين فإشارة إلى اراءة تمثال الممثل- أعني المنافقين- في مرآة التمثيل، لئلا يتوغل فيه ذهن السامع فينسى المقصد.. ورمز إلى أن المشابهة وصلت إلى درجة، وتضايق المسافة بينهما إلى حدّ يتراءيان معا، فتمتزج الحقيقة بالخيال.. وأيضًا إيماء إلى ظلمة قلوبهم إذ وجدانهم أيضًا يعذبهم لقصورهم وجنايتهم؛ إذ من رأى جزاء جنايته لايستريح وجدانه.
وأما هيئات جملة: {يكاد البرق يخطف أبصارهم} فاستينافها يشير إلى أن السامع يقول: ألا ينتفعون بالبرق المخفف لبلاء الظلمة عنهم؟ فأُجيبَ بأنهم يخافون من الضرر فضلًا عن الفائدة.
وأما {يكاد} فيشير باعتبار خاصته المشهورة إلى وجود سبب زوال البصر لكن لم يزل لوجود مانع.
وأما {يخطف} باعتبار استعماله كاختطفته الغُول والعُقاب ففيه بلاغة لطيفة تبرق للذهن وتشير إلى أن البرق يسابق شعاع العين من قبل أن يصل إلى الأشياء ليأخذ صورها يمرّ هو عليه فيقطعه ويضرب على جفنه فيذهب بنوره. كأن نور العين لما خرج من بيته مسرعًا لأجتناء صور الأشياء يسارع البرق الذي هو شعاع عين الليل، فيأخذ من يد شعاع العين صورته قبل ايصاله إلى المخزن، أي يختلس البرق صورته من يده.
وأما {أبصارهم} فرمز- بناء على كونها مرآة للقلوب- إلى عمل بصائر المنافقين المتعامية عن البراهين القاطعة القرآنية.
وأما هيئات جملة {كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا اظلم عليهم قاموا} فاستينافها يشير إلى أن السامع حينما رأى اختلاف المصيبة وتغيرها سأل عن شأنهم في الحالتين فأجيب بذلك.
وأما {كلما} في الاضاءة وإذا في الاظلام فإشارة إلى شدة حرصهم على الضياء ينتهزون ادنى الضياء فرصة. وأيضا كلما متضمن لقياس مستقيم استثنائي.
وأما {اضاء لهم} بلام الاَجْلية والنفع فرمز إلى أن المصاب المدهوش يستغرق في حاجة نفسه حتى يظن الضياء الذي تنشره يد القدرة في العالم لآلاف حِكمٍ كلية أنه المراد به خاصة، ويد القدرة إنما ارسلته لأجله.
وأما {مشوا} مع اقتضاء الفرصة السير السريع فإشارة إلى أن المصيبة اقعدتهم فما سيرهم السريع إلا مشي وحركة على مهل.
وأما {فيه} فإشارة إلى أن مسافة حركتهم الضياءُ الذي هو لون الزمان فكأنه يحدد لهم المكان.
وأما {وإذا} فالواو رمز إلى تجديد المصيبة لتشديد التأثير. وأما الاهمال والجزئية في {إذا} عكس {كلما} فإشارة إلى شدة نفرتهم وتعاميهم، فتأخذهم وهم منغمسون في آن الفرصة.
وأما {اظلم} بالاسناد إلى البرق فإشارة إلى أن الظلمة بعد الضياء اشد. وايماء إلى أن خيال المصاب لما رأى البرق طرد الظلمة ثم ذهب وامتلأ موضعه بالظلمات يتخيل أنه انطفأ واورث دخانًا.
وأما {عليهم} الملوِّح بالضرر فإشارة إلى أن الاظلام ليس تصادفيا بل جزاء لعملهم. ورمز إلى أن المدهوش يتخيل الظلمةَ المالئة للفضاء كأنها تقصد- من بين الأشياء- ذلك الإنسان الصغير الذليل وتجعله خاصة هدفَ هجومها وإضرارها.
وأما {قاموا} بدل سكنوا فإشارة إلى أنهم بالمصيبة وشدة التشبث تقوّسوا كالراكعين كما هو شأن المجدِّين في العمل.
وأما هيئات جملة {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم} فالواو بسر الربط تلوّح إلى أن يد القدرة تتصرف تحت حجاب الأسباب، وأن نظر الحكمة يراقب من فوق جميع العلل.
وأما {لو} فمتضمنة لقياس استثنائيّ غير مستقيم. أي عدم المشيئة علة لعدم ذهابهما؛ كما أن عدم الذهاب دليل على العلم بعدم المشيئة بذهابهما. وأيضًا رمز إلى أن السبب بلغ النهاية.
وأما {شاء} فإشارة إلى أن الرابط بين السبب والمسبَّب إنما هي المشيئة والارادة الإلهية. فالتأثير للقدرة، وما الأسباب إلا حجاب العزة والعظمة لئلا تباشر يد القدرة بالأمور الخسيسة في ظاهر نظر العقل.
وأما التصريح بلفظة {الله} فإشارة إلى زجر الناس عن الإِبتلاء بالأسباب والانغماس فيها. وأيضا لدعوة الأذهان إلى رؤية يد القدرة خلف كل الأسباب.. وأما حذف مفعول شاء وأن كان واجبا بالقاعدة المطردة فيجوز بقرينة اخواته أن يكون إيماء إلى عدم تأثر المشيئة والارادة الالهية بأحوال الكائنات وعدم تأثير الأشياء في الصفات الالهية كما تتأثر ارادة البشر بحسن الأشياء وقبحها وعظمتها وصغرها.
وأما {لذهب} فإشارة إلى أن الأسباب ليست مسلطة ومستولية على المسببات حتى إذا رُفعت بقيت المسببات في جوف العدم تلعب بها يد التصادف وتشتّتها بالاتفاق، بل يد القدرة حاضرة خلف الأسباب. إذا أخرجت الأشياءَ تأخذها يدُ الحكمة الالهية بقانون الموازنة والانتظام، ترسلها إلى مواقع اُخر ولاتهملها. كما أن الحرارة إذا خرّبت بُنية الماء، فبالنظام المندمج في الهواء يذهب البخار في مجرى معين ويسوقه صانعه إلى موقع معين.. وكذا في ذهب رمز إلى أن الحواس الخمس الظاهرة ليست متولدة عن الطبيعة ولا لازمة لتجاويف السمع والبصر، بل إنما هي هداياه تعالى وعطاياه. وما التجاويف والأسباب إلا شرائط عادية.
وأما التعدية بالباء بدل الهمزة فايماء إلى أن يد القدرة لا تطلق الأشياء عن حبل الأسباب، غَاربُها على عنقها بل تضع ازمّتها بيد نظام.
وأما افراد السمع مع جمع البصر فإشارة إلى افراد المسموع وتعدد المبصر، إذ ألف رجل يسمعون شيئًا واحدًا مع تخالف المبصرات.
اصل المثل: حبلكِ على غاربك. والغارب: اعلى السنام. وهذا كناية عن الطلاق، أى: اذهبى حيث شئتِ مجمع الامثال.
وأما هيئات جملة {إن الله على كل شيء قدير} فاعلم! إنها فذلكة لتحقيق الدهشة في التمثيل والممثل له تشير إلى أنه كما لا تهمل دقائق أحوال المصابين المتمثلة لجزئيات أحوال المنافقين؛ كذلك يُرى في كل ذرة تصرف القدرة الالهية.
وأما {ان} فمع اشارتها إلى أن هذا الحكم من الحقائق الراسخة، رمز إلى عظمة المسألة ووسعتها ودقتها، وعجز البشر وضعفه وقصوره عنها المولِّدة للأوهام المنتجة للتردّد في اليقينيات.
وأما التصريح بلفظة {الله} فايماء إلى دليل الحكم، إذ القدرة التامة الشاملة لازمة للالوهية.
وأما {على} فايماء إلى أن القدرة المخرجة للاشياء من العدم لا تتركها سُدىً هَملًا، بل ترقب عليها الحكمة وتربيها.
وأما {كل} فإشارة إلى أن آثار الأسباب، والحاصل بالمصدر من الأفعال الاختيارية أيضا بقدرته تعالى.
وأما لفظ {شيء} بمعنى مشئ أي ما تعلقت به المشيئة، فإشارة إلى أن الموجودات بعد وجودها لاتستغني عن الصانع بل تفتقر في كل آن لبقائها- الذي هو تكرر الوجود- إلى تأثير الصانع.
وأما لفظ {قدير} بدل قادر فرمز إلى أن القدرة ليست على مقدار المقدورات فقط، وانها ذاتية لا تغير فيها، ولازمة لاتقبل الزيادة والنقصان لعدم امكان تخلل ضدها حتى تترتب شدة ونقصانا.. وتلويح إلى أن القدرة كالجنس وكميزان الصرف، أعني: فَعَلَ لجميع الأوصاف الفعلية من الرزاق والغفار والمحيي والمميت وغيرها. تفكر فيما سمعت حق التفكر!. اهـ.